محمود شادي اللواء
وسامكـ يا مسلمـ/ة : مهنتكـ يا مسلمـ/ة : مزاجــك يا مسلمـ/ة : علمـ دولتكـ يا مسلمـ/ة : هوايتكـ يا مسلمـ/ة : جنسك يا مسلمـ/ة : مساهماتكـ يا مسلمـ/ة * * : 775 نقاطكـ يا مسلمـ/ة * : 5668 سمعتكـ يا مسلمـ/ة * * : 0 تاريخ تسجيلكــ يا مسلمـ/ة * * : 16/12/2009 عمركـ يا مسلمــ/ة * * : 26
| موضوع: رحلة القرآن العظيم - الحلقة 2 السبت يناير 09, 2010 6:42 am | |
| بســم الله الـرحمــن الرحيــم
السلام عليكــم ورحمـة الله وبركاتــه ،،
رحلة القرآن العظيم (2)
المعلق:
امتدت الفتوحات في عصر سيدنا "عمر"، وسيدنا "عثمان" -رضي الله عنهما- وكثر الداخلون في الإسلام دين الله الحنيف: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [ سورة النصر]، وازدادت حاجة الداخلين إلى معرفة تعاليم الدين الجديد؛ فظهرت المصاحف في الأمصار من إملاء كبار الصحابة الذين كانوا يُعلمون القرآن بلهجاتهم قراءاتهم السبع، التي أجاز لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- القراءة بها تيسيرًا عليهم.
فكان أن ظهر الخلاف بين المتعلمين الذين يتلقون القراءة، وصار كل واحد يتطاول على أخيه بقراءته، ويخال أن قراءته هي الأصح، كما وقع الخلاف في جيش الفتح على أرض أرمينية، وتشاجر الجند فيما بينهم؛ بسبب اختلاف اللهجات في قراءة القرآن، مما دفع "حذيفة بن اليمان" أن يشكو أمرهم للخليفة "عثمان" بقوله: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب.
وتدارك عثمان الأمر، فجمع أعلام الصحابة وتدارس معهم أمر هذه الفتنة وأسبابها وعلاجها، واجتمع الرأي على ضرورة عمل نسخ من القرآن الكريم ترسل للأمصار، وتكون أصلاً لقراءة كتاب الله وكتابته، يرجع إليها كلما دعت الحاجة.
وأرسل سيدنا عثمان -رضي الله عنه- إلى أم المؤمنين "حفصة": أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها.
فشكل لجنة رباعية قوامها: "زيد بن ثابت"، و"عبد الله بن الزبير"، و"سعيد بن العاص"، و"عبد الرحمن بن الحارث بن هشام"، وقد حددت مهمة اللجنة في أن تعمل على إخراج نص مكتوب للقرآن العظيم من الأصل المحفوظ عند أم المؤمنين "حفصة"، وأوصى الرهط القرشيين الثلاثة قائلاً: إذا اختلفتم أنتم و"زيد بن ثابت" في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم.
وكانت مهمة اللجنة صعبة في التوفيق بين لهجات العرب، ولكن لهجة قريش كانت ملاذهم الأخير.
شرعت اللجنة الرباعية في تنفيذ قرار الخليفة "عثمان" سنة خمس وعشرين للهجرة، واستغرق العمل سنة بكاملها، نسخت فيه اللجنة أربع نسخ على الرق، أرسلها الخليفة إلى "الكوفة" و"البصرة" و"الشام"، واحتفظ بنسخة له، وأمر بحرق كل صحيفة أو مصحف سواه.
وأرسل مع كل مصحف قارئًا؛ ليضع بذلك حدًّا لأي خلاف واختلاف يقع في الرسم أو في القراءة، فقد أرسل القارئ "المغيرة بن هشام" للشام، و"أبا عبد الرحمن السلمي" للكوفة، و"عامر بن عبد القيس" للبصرة.
قال سيدنا علي -رضي الله عنه-: لا تقولوا في عثمان إلا خيرًا، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا، ولو وليت ما ولي لعملت في المصاحف ما عمل.
أعاد سيدنا "عثمان بن عفان" الصحف التي اطلعت عليها اللجنة لأم المؤمنين "حفصة ابنة عمر" -رضي الله عنها- فاحتفظت بها ولم تفرط فيها، فلما توفيت أخذها "مروان بن الحكم" من أخيها "عبد الله بن عمر"، فغسلها ثم أتلفها وأحرقها.
كتبت المصاحف الأولى بخط مكي مدني واضح بيّن محكم رصين، ليس فيها تشكيل ولا تنقيط، خالية من أسماء السور والفواصل، وبينها وبين الآيات مساحة قليلة فارغة ليس فيها ما يشير إليها، وبمداد حبر أسود على رق، وبمقاس كبير شبه مربع، وبإملاء ورسم عرفا فيما بعد بـ"الرسم العثماني"، نسبة للخليفة عثمان -رضي الله عنه- مع أن عثمان لا علاقة له بهذا الرسم وهذا الإملاء، فلم يضع قواعده ولم يمل هجاءه، وإنما أمر بكتابته بذات الصورة التي كتب بها أيام النبي -صلى الله عليه وسلم-، والتي أوضحنا من قبل بأنها مستمدة من رسوم الأنباط الذين أثروا في إملاء العربية؛ لحكمة أرادها الله.
لقد كتب الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- القرآن العظيم برسم إملائي يجد فيه الدارس اليوم بعض الغرابة؛ لأنه يطلق حكمه من منطلق تطور الرسم الذي نكتب به اليوم، بعد أن تطورت الكتابة وأخذت رسومها حذفًا ووصلاً لكلمات كثيرة، وإن كثيرًا من الكلمات يتغير رسمها عن منطوقها أثناء درج الكلام وحين الوقوف، ولابد للمتأمل في الرسم أن يعلم أن قواعد الهجاء التي نكتب بها اليوم قد جاءت في مرحلة لاحقة بعد التطور الذي حل برسوم العربية من نقط وشكل وضبط.
ورسم المصحف بشكله القديم يفيد في توجيه القراءات التي نزل بها القرآن ولهجات العربية المختلفة.
فإضافة الألف مثلاً في ثمود في قوله: (وَعَادًا وَثَمُودًا) [الفرقان: 38] تفيد قراءة ابن كثير وأبي عمرو ونافع؛ لأنهم قرءوها بالتنوين (ثَمُودًا)، وزيادة الألف في (ملاقوا) (نصروا) (يعفوا)، كزيادة الألف في "مائة" أو الواو في "أولئك"؛ كي لا تقرأ منه أو "إليك"، لأن الكتابة كما نعلم لم تكن مشكولة ولا منقوطة من قبل.
وقد تحدثنا عن التأثيرات النبطية في الإملاء، كحذف الألف الطويلة كما في (العالمين)، وكتابة التاء المبسوطة في النبطية تكتب الأسماء المؤنثة بالتاء في معظم الحالات، كأن نكتب خالة "خلت"، ووائلة "ويلت"، وغزالة "غزلت"، وسنة "سنت".
إن سر الرسم القرآني العثماني يحتاج إلى دراسة مفصلة واعية بعيدة عن الهوى، وتتعلق بدراسة تطور الكتابة مما قبل عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ لنحكم في النهاية على أن هذا الشكل من الرسم كان متطورًا في زمنه، ويوافق في كثير من الأحيان المنطوق المرسوم.
إن كتابة (الزكاة، الحياة، النداة، مشكاة، النجاة، الربا) من تأثيرات الكتابة النبطية، وتحمل أسرار الأصوات في طريقة النطق للهجة من اللهجات العربية التي نزل بها القرآن الكريم.
يقول "ابن الجوزي": إن كتابة الصحابة للمصحف مما يدل على عظيم فضلهم في علم الهجاء خاصة، وثقوب فهمهم في تحقيق كل علم.
واستدل "السيوطي" على قدم علم النحو: بما منه كتابة المصحف على الوجه الذي يعلله النحاة في ذوات "الواو، والياء، والهمزة، والمد والقصر"؛ فكتبوا ذوات "الياء" بالياء، وذوات "الواو" بالألف.
إن قواعد الإملاء العادي لم يتفق عليها واضعوها وهي عرضة للتغيير والتبديل، ومتطورة على مدى الزمن، فواجب الحذر والتحرز يقتضي من المسلمين أن ينزهوا القرآن في رسمه عن قواعد مختلف فيها ومطلوب تغييرها، وربما يؤدي الترخص في الرسم إلى التحريف.
وسبق أن حاولت "إسرائيل" وعمدت إلى تحريف كتاب الله؛ فطبعت مائة ألف نسخة سنة إحدى وستين وتسعمائة وألف ووزعتها في البلاد الإفريقية والآسيوية، وبدلت عبارات وحذفت أخرى، وأسقطت آيات.
ووجه شيخ الأزهر حينها برقية يقول فيها: إن "إسرائيل" التي قامت على البغي والطغيان، والاعتداء على المقدرات والمقدسات، ما زالت تعيش في هذا العبث، وتحيى في إطار هذا الطغيان، وإنها بتحريفها القرآن الكريم، تريد القضاء على معتقداتنا وديننا، وهي بذلك تمارس ما كان عليه آباؤهم من تحريف الكلم عن مواضعه.
وانعقد مؤتمر إسلامي استعرض جريمة التحريف، وكان الرد بتسجيلات المصحف المرتل، وتوزيع اسطوانات في الدول التي وزعت فيها "إسرائيل" المصاحف المحرفة، وباءت "إسرائيل" بالفشل والخزي، والله حافظ لقرآنه ومتمم نوره ولو كره الصهاينة.
يوجد في العالم اليوم أربعة مصاحف تنسب لسيدنا عثمان ولزمنه.
واحد في "طشقند"، ويعرف بالمصحف "السمرقندي"، حيث كان في جامع "خوجا عبيد الله الأحرار"، ثم اشتراه حاكم "تركستان" ونقله إلى "بطرس بيرج" فوضع في دار الكتب القيصرية، وكان الناس يزورونه، ثم نشرته جمعية الآثار القديمة على يد الخطاط المصور الروسي "باركس"، وطبعت منه خمسين نسخة.
ولما كان الانقلاب "البلشفي" أواخر سنة سبع عشرة وتسعمائة وألف ميلادية حمل المصحف في حفل عظيم وتحت حراسة مشددة من الجند إلى النظارة الدينية، وبقي فيها خمس سنوات.
وفي سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة وألف ميلادية نقل إلى "تركستان"، وبقي في "سمرقند" فترة طويلة، وهو الآن في "طشقند" في مكتبة الإدارة الدينية.
والمصحف السمرقندي هذا مكتوب على الرق بمساحة قدرها ثمان وستون بثلاث وخمسين سنتيمترًا، وعدد ورقاته ثلاثمائة وثلاث وخمسون ورقة، وهو خال من النقط والشكل والتزيين ومكتوب بخط كوفي محقق رصين، وكل صفحة من صفحاته تحتوي على اثني عشر سطرًا.
قال تعالى: (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْهَا) [الأعراف: 87- 89].
ويتساءل بعض المؤرخين عن الطريق الذي وصل منه هذا المصحف الإمام إلى "سمرقند" ويفترضون حلولاً، فمنهم من قال: إنه كان هدية من السلطان المملوكي الملك الظاهر "ركن الدين بيبرس" لـ"بركة خان" -"خان" القبيلة الذهبية-؛ لأن "بيبرس" تزوج ابنته.
ومنهم من قال: بل هو المصحف الذي رآه "ابن بطوطة" ووصفه أثناء زيارته للبصرة، وانتقل منها على يد "تيمورلنك" إلى "سمرقند".
وصورة الخط في هذا المصحف هي أقرب ما تكون إلى صورة الكتابة التي كتب بها المصحف الإمام.
ومن النقاد من يقول: إن هذا المصحف لا يرقى إلى زمن الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وإن الصنعة ظاهرة عليه، ويشبه مصحف "القيروان"، ويعود للقرن الثاني أو الثالث الهجري؛ إذ الخطوط فيه مستقيمة وكأنها رسمت بمسطرة.
والمصحف الثاني المنسوب لسيدنا عثمان -رضي الله عنه- موجود بالقاهرة وهو مكتوب على الرق بدون شكل أو نقط.
يذكر "المقريزي": أن رجلاً من أهل العراق قدم إلى مصر في الخامس من المحرم سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة هجرية في خلافة "العزيز بالله الفاطمي"، وأحضر معه مصحفًا. ذكر أنه مصحف عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وأنه كان بين يديه يوم الدار، وكان فيه أثر الدم. وذكر أنه استخرج من خزائن "المقتدر"، ودفع المصحف إلى "عبد الملك بن شعيب" المعروف بـ"ابن بنت ولد القاضي"، فأخذه "أبو بكر الخازن" وجعله في جامع عمرو وشهره، وجعل عليه خشبًا منقوشًا، وكان الإمام يقرأ فيه يومًا وفي "مصحف أسماء" يومًا، وذلك إبان "العزيز بالله" لخمس خلون من المحرم سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة.
ويعلق "المقريزي" على ذلك" بأن قومًا ينكرون أن يكون المصحف المشار إليه مصحف عثمان -رضي الله عنه-؛ لأن نقله لم يصح ولم يثبت برواية رجل واحد.
ويورد "السمهودي" خبرًا آخر يقول: إن بالقاهرة مصحفًا عليه أثر لدم عند قوله تعالى: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) [البقرة: 137]، كما هو بالمصحف الشريف الموجود اليوم بالمدينة.
ويذكرون أنه المصحف العثماني، وكذلك بمكة، والمصحف الإمام الذي قتل عثمان -رضي الله عنه- وهو بين يديه لم يكن إلا واحدًا، والذي يظهر أن بعضهم وضع خلوقًا على تلك الآية تشبيهًا بالمصحف الإمام، ولعل المصحف هذا من المصاحف التي بعث بها "عثمان" رضي الله عنه.
ظل هذا محفوظًا بـ"مدرسة القاضي الفاضل"، وكان بها مكتبة لا نظير لها، ثم تفرقت هذه الكتب وتخربت المدرسة، فنقل السلطان الأشرف "قنسوه الغوري" هذا المصحف إلى القبة التي أنشأها تجاه مدرسته، وبقي فيها حتى سنة خمس وسبعين ومائتين وألف هجرية، ثم نقل مع آثار نبوية أخرى إلى المسجد الزينبي، ثم إلى خزانة الأمتعة بالقلعة، وفي سنة أربع وثلاثمائة وألف هجرية نقل إلى ديوان الأوقاف، ومن هناك في العام التالي إلى قصر عابدين، ثم إلى المسجد الحسيني في نفس السنة، وما يزال محفوظًا به حتى يومنا هذا.
وأما المصحفان الثالث والرابع فهما موجودان في "استانبول" واحد بمتحف الآثار الإسلامية، والآخر في متحف الأمانات المقدسة بـ"طبقابي سراي"، وكلاهما مكتوب على الرق بمداد حبر داكن وبمقاس مختلف وأسطر مختلفة.
ونقرأ في مصحف الخليفة عثمان -رضي الله عنه- ويقال: إن دماءه عليه وهو الموجود في "طبقابي":
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا (4) وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ) [النساء: 1- 4].
إن مصحف الخليفة عثمان هذا المحفوظ بـ"طبقابي سراي" منقوط باللون الأحمر، وفي آخر الآية أحيانًا دائرة تشغلها خطوط هندسية. وقيل: إنه كتب بخط الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إلا أن هذه العلامات تؤكد على بطلان القول إنه من المصاحف العثمانية، كما أن فيه رقش ونقط وهذا ما ليس من مزايا المصاحف العثمانية.
ما قيل عن المصاحف المنسوبة:
تذكر بعض المصادر التاريخية: أن مصحف الإمام الخاص به كان محفوظًا في جامع قرطبة، وأنه ظل محفوظا به حتى سنة اثنتين وخمسين بعد الخمسمائة عندما نقله "عبد المؤمن بن علي" خليفة الموحدين إلى "مراكش"، وظل بالمغرب حتى عهد "بني مرين".
يروي "الإدريسي" في "نزهة المشتاق": إن جامع قرطبة كان يحتفظ في مخزنه الواقع إلى يسار المحراب بمصحف كان يرفعه رجلان لثقله، وهذا المصحف كان يضم أربع أوراق من مصحف "عثمان بن عفان" الذي خطه بيمينه، وفيه نقط من دمه.
لقد نظم الشعراء قصائد كثيرة، منها ما أنشده الوزير "يحيى بن محمد بن عبد الملك بن طفيل":
جزا الله عنا للأنام خليفة به شربوا ماء الحياة فخلدوا
بمصحف عثمان الشهيد وجمعه تبين أن الحق بالحق يعضدُ
رأى أثر المسفوح في صفحاته فقام لأخذ الثأر منه مــــؤيدُ
عندما نقل "عبد المؤمن بن علي" مصحف "عثمان" إلى المغرب، احتفل الناس في الاعتناء بكسوته، وأبدلها فبعد أن كانت من الجلد القاتم كساه بصفائح الذهب المرصعة بالآلي النفيسة والأحجار الكريمة من يواقيت وزمرد.
ولم يكن "عبد المؤمن بن علي" وحده الذي وجه اهتمامه بمصحف عثمان، فقد تابعه في ذلك أبناؤه وأحفاده، فكانوا يتفننون في تزيينه بمزيد من الجواهر النادرة، وأضيفت الأحجار الكريمة لدفتيه حتى استوعبوهما، وكانوا دائمًا يحضرونه في مجالسهم في ليالي رمضان، ويباشرون بالقراءة فيه، ويصفحون ورقه بصفيحة من الذهب تشبه المسطرة.
لقد أفاضت المصادر في وصف ما زينت به كسوة هذا المصحف بعد انتقاله إلى المغرب. يذكر "عبد الواحد المراكشي" أنه في عهد الخليفة الموحدي "أبي يعقوب يوسف" أرسل ملك صقلية إتاوة مالية للموحدين وفيها ذخائر لم يكن عند ملك مثلها، منها حجر ياقوت لا يقدر بمال، كان يسمى الحافر الأحمر، على شكل حافر الفرس؛ كللوا به غلاف المصحف العثماني إلى جانب أحجار كريمة نفيسة أخرى، وصنع للمصحف كسوتان واحدة من السندس الأخضر يخرج بها للناس عامة، وأخرى عظيمة قيمة يخرج بها لخاصة الناس.
كما صنع الموحدون محملاً خشبيًّا مرصعًا ومنقوشًا ومغلفًا بصفائح ذهبية، وصنع لذلك المحمل كرسي يحمله، رصع بدوره بأجمل اليواقيت وأحلى الدرر، ثم جعلوا لكل هذا تابوتًا كبيرًا مكعب الشكل به مشكاة، وقد ركب الصناع في أحد جوانبه بابًا عليه دفتان، وتفنن الصناع في طريقة فتح بابه وغلقه بحركات هندسية فنية، فقد كان له مفتاح يترتب عليه أربع حركات، أولها: انفتاح الباب بانعطاف الدفتين، ثم خروج الكرسي من تلقاء نفسه، ثم يتحرك المحمل في ذات الوقت من مؤخر الكرسي إلى مقدمه، فإذا تم خروج الكرسي والمحمل انغلق الباب من تلقاء نفسه.
قتل سيدنا عثمان -رضي الله عنه- وهو يقرأ القرآن، وصبغت دماؤه صفحات ومداد القرآن العظيم، وانتشر الإسلام في أرجاء الأرض ووصلت المصاحف التي أمر بها إلى الأمصار، وسارع المسلمون إلى نسخ المصاحف منها، حرفًا بحرف، وكلمة بكلمة، واشتُهر أئمة بالقراءة والكتابة، ولاقى القرآن عناية ما عرفت البشرية كلها بكتاب مثيلاً.
وتمر الأيام، ويدخل في الدين الجديد آلاف وآلاف من غير العرب أبناء البلاد المفتوحة، أولئك الذين لا يحسنون التكلم بالعربية، وهم يتشوقون لقراءة القرآن الكريم، وفهم معانيه، واتباع تعاليمه. فكان أن تسرب اللحن وفشا الغلط، وكان لابد من وضع ضوابط لشكل القرآن العظيم ولنطقه، حتى لا يخطئ فيه من كان أعجمي اللسان.
حكاية النقط .. الإعراب .. التشكيل
وكانت حكاية بداية نشوء النقط الذي نعني به اليوم "التشكيل" للحرف العربي: وهو إعراب اللفظ؛ كي لا يتسرب اللحن أي الغلط إلى اللسان، ويتغير المعنى ويفهم منه غير المقصود، فيختلط الأمر.
لقد سمع "ظالم بن عمرو بن سفيان" الشهير بـ"أبي الأسود الدؤلي" حوالى سنة ثمان وثلاثين للهجرة قارئا يقرأ قوله تعالى: (إن الله بريء من المشركين ورسولِه) بجر لام (رسولُه) بدل الرفع، وهذا كفر من غير شك، فقال "أبو الأسود": معاذ الله أن يتبرأ من رسوله. وأفزعه ذلك، وشعر بخطورة الأمر، فلجأ لسيدنا علي وشرح له ما يجول في فكره، فباركه وقال له: ما أحسن هذا النحو الذي نحوت.
وكان بدء علم النحو، وبدء الإعراب، وبدء النقط، وبدء التشكيل.
الصورة الأولى للتشكيل: النقط
لم تكن صورة التشكيل فوق الحروف كصورة التشكيل التي عليها حروف العربية اليوم، وإنما كانت كما وضعها "أبو الأسود الدؤلي" المتوفى سنة تسع وستين للهجرة، حين اختار رجلاً من "عبد القيس" وقال له: خذ المصحف وصابغا يخالف لونه مداد المصحف، فإذا فتحت شفتي فأنقط نقطة فوق الحرف، وإذا ضممتهما فأنقط أمامه نقطة، وإذا كسرتهما فأنقط تحته نقطة، فإذا اتبعته غنة أو تنوينا فأنقط نقطتين. حتى أتى على آخر المصحف.
فالتشكيل الأول كما نرى هو عبارة عن رسم دائرة نقطة بمداد حبر أحمر حتى لا تختلط بجسم الحرف، فوق الحرف لتدل على الفتحة، وتحت الحرف للخفض أي الكسرة، وفي وسط الحرف أو بين يديه للضمة، واستخدم النقطتين لتدل على التنوين.
(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) [الأعراف: 206].
وفي سورة البقرة نشاهد النقط الذي هو الشكل، وهو نقط "أبو الأسود الدؤلي"، قال تعالى:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة: 1- 5].
وهكذا حلت مشكلة الإعراب، وصار القارئ في كتاب الله في المصحف الشريف في مأمن من الوقوع في لحن أو خطأ يشوه المعنى القرآني.
وظل هذا الأسلوب من الشكل متبعًا حتى أواخر القرن الهجري الأول، بل وحتى نهاية العصر الأموي سنة اثنتين وثلاثين ومائة للهجرة.
لم تبق الحركات من فتحة وخفضة وضمة وتنوين متفردة في القرآن الكريم بمداد أحمر لضبط كلماته، وإنما أضيفت إليها رموز جديدة لتعبر عن المهموز والتشديد والمدود، واستخدم لها اللون الأخضر والأصفر والبرتقالي واللازوارد؛ كي يدل كل لون على رمز صوتي.
فبينما مثلت النقطة الصفراء "الهمزة" عند أهل المدينة أصحاب الإمام "مالك بن أنس" المتوفى سنة تسع وسبعين بعد المائة من الهجرة وتبعهم في ذلك أهل المغرب والأندلس، كانت النقطة الخضراء والحمراء هي التي تمثل "الهمزة" عند أهل العراق والشام.
كما استخدموا النقطة الصفراء لتدل على "الشدة"، واستعمل أهل المدينة والمغرب والأندلس النقطة الخضراء لهمزة الوصل أو الحرف الذي لا يلفظ.
كما قامت طوائف من أهل الكوفة والبصرة فأدخلوا الحروف الشواذ في المصاحف، ونقطوها باللون الأخضر، وربما جعلوا الخضرة للقراءة المشهورة، وجعلوا الحمرة للقراءة الشاذة المتروكة، وذلك تخليط وتغيير كما يقول "الداني".
لقد بقي المصحف الشريف خلال هذه الفترة مكتوبًا بمداد حبر أسود أو داكن، ولم تمس حروفه ولم يتسرب إليها أي لون، وإنما كانت الإشارات النقاط فوق الحروف، هي التي استخدم المسلمون فيها الألوان.
يقول "الداني": "وأكره من ذلك وأقبح منه ما استعمله أناس من القراء وجهلة من النقاط، من جمع قراءات شتى وحروف مختلفة في مصحف واحد، وجعلهم لكل قراءة لونًا من الألوان المخالفة للسواد، كالحمرة والخضرة والصفرة واللازورد، وتنبيههم على ذلك أول المصحف ودلالتهم عليه هناك؛ لكي تعرف القراءات وتميز الحروف، إن ذلك من أعظم التخليط وأشد التغيير للمرسوم".
لقد لعبت الألوان بصورة نقاط للشكل فوق الحروف دورًا كبيرًا في العناية برسم المصحف على مدى أربعة قرون؛ كانت الغاية من ذلك ضبط القراءة حتى لا يخطئ قارئ القرآن في حرف صوتي.
ولقد كان التحفظ الصادق الأصيل في المحافظة على متن القرآن الكريم الذي كان عليه أيام "عثمان بن عفان" -رضي الله عنه-، فلم يمس أحد جسم الحرف المكتوب بمداد أسود على الرق؛ وما ذلك إلا لقطع السبيل على تحريفه بأية إضافة من الإضافات.
شكرا و السلام عليكم و رحمته و بركاته انتظروا الحلقات القادمة | |
|